فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



حذرهم أمرين: أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم، والآخر الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له {فتنازعوا أمرهم بينهم} كقوله في الكهف: {إذ يتنازعون بينهم أمرهم} [الكهف: 21] أي وقع التنازع بينهم {وأسروا النجوى} الضمير لفرعون وقومه. وقيل: للسحرة ويؤده ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرًا فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب: لما قال: {ويلكم} الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر. والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد وهو أنهم.
{قالوا إنْ هذان ساحران} إلى آخر الآية: لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص، لأنه كقولك إن زيدًا لمنطلق واللام فارقة بين المخففة والنافية. وأما من قرأ {إن} بالتشديد و{هذان} بالألف فأورد عليه أن {إن} لم يعمل في المثنى. وأجيب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة، ونسبها الزجاج إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقيل: {إن} بمعنى نعم واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله:
أم الحليس لعجوز شهربة

ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر. وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ. والجواب أن القرآن حجة على غيره، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى. قال: وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحاق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمرًا معلومًا جليًا وإلا كان تكليفًا بعلم الغيب للمخاطب، وإذا كان معروفًا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام. وأيضًا إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. وأيضًا امتنع البصريون من جعل النفس في قولك: زيد ضرب نفسه تأكيدًا للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز. وأيضًا لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزًا لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى.
وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزًا من وجه مطنبًا من وجه آخر فلا منافاة، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة. وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر، لا لأن تأكيد المنوي ممتنع على أنا بينا أن المؤكد ليس بمحذوف في الآية مطلقًا فإن أحد طرفي الكلام مذكور. وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلًا فكم ترك الأول للآخر.
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. ويقال: هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين ونفرقهم بأنه ساحر، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم- وهذا أيضًا مما يبغض القاصد إليهم- وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنوا إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزبٍ بما لديهم فرحون. والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق، ومنهم من فسر الطريقة هاهنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به. من قرأ {فأجمعوا} من الجمع فظاهر، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعًا عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} [الآية: 71] سماه كيدًا لأنه علم أن السحر لا أصل له. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعًا عليه. ثم أمرهم بأن يأتوا صفًا أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس. وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم. {وقد أفلح اليوم من استعلى} أي فاز من غلب وهو اعتراض. واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في الأعراف وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة. {إما أن تلقي} أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا {فإذا حبالهم} هي إذا المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجًا موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم. قال وهب: سحروا أعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك. وقيل: أراد أنه شاهد شيئًا لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلًا {فأوجس} أضمر {في نفسه خيفةً} هو مفعول {أوجس} و{موسى} فاعله أخر للفاصلة. وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملًا بقوله: {إنك أنت إلاّ على} وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن، والتوسيط بالفصل، وكون الخبر معرفًا ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلًا بقوله: {وألق ما في يمينك} لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة {وما تلك بيمينك} وقال جار الله: هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع {ما صنعوا} أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئًا أعظم شأنًا من كلها {إنما صنعوا} إن الذي افتعلوه {كيد سحر} أي ذي سحر، أو ذوي سحر، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك علم فقه وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال.
{ولا يفلح الساحر} أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولًا لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر، وأفراد السحرة لا فلاح فيها ومن نظائره إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللًا لا في أمر دنيا ولا في أمر آخره. ومعنى سبهللًا أنه يجيء ويذهب في غير شيء. ومعنى {حيث أتى} أينما كان وأية سلك {فألقى السحرة سجدًا} قال جار الله: سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!. وروي أنهم لم يرفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها، وعن عكرمة: لما خروا سجدًا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وقلت: إذا كان الإيمان مقدمًا على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء. ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألفى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم أمرني كبيري أي أستاذي في العلم أو غير، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل {من خلاف} قال في الكشاف: من لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاقه إياه.
قالت: الأولى أن يقال الخلاف هاهنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يمينًا وشمالًا، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات. قيل {في جذوع النخل} أي عليها والأصوب أن يقال: هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف {أينا أشد} أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف. قلت: يحتمل أن يريد بقوله: {أينا} الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى، وقد سبق عذاب الله في قوله: {أن العذاب على من كذب وتولى} وفي قوله: {فيسحتكم بعذاب} ويؤيده قول السحرة في جوابه {والله خير وأبقى} {لن نؤثرك} لن نختارك {على ما جاءنا من البينات} المعجزات الظاهرات {و} على {الذي فطرنا} أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه. وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك {فاقض ما أنت قاضٍ} بما شئت من العذاب {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} أي في مدة الحياة العاجلة، وقرئ {تقضي} مبنيًا للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعًا مثل صيم يوم الجمعة. والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية. والإيمان وثمرته باقٍ لا يزول، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} قال الحسن: سبحان الله قوم كفار ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى {فاقض ما أنت قاضٍ} والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عامًا ثم ليبيع دينه بثمن غبن.
ولما كان أقرب خطاياهم عهدًا ما أظهروه من السحر قالوا {وما أكرهتنا عليه من السحر} وفي هذا الإكراه وجوه: عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل. وروي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا ففعل فوجده تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه. وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا. وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان، ولعل الأول أولى {إنه} أي الشأن {من يأت ربه} أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي {مجرمًا فإن له جهنم لا يموت فيها} موتة مريحة {ولا يحيى} حياة ممتعة.
قالت المعتزلة: صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم من الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحل القطع بوعيد أصحاب الكبائر. أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيرًا ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله: {يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر} [المدثر: 40-42] إلى قوله: {وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 46] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر، وكقوله: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} [المطففين: 29] إلى آخر السورة. فلم قلتم: إن المجرم هاهنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو، وحينئذٍ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق. سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنه معارض بعموم الوعد في قوله: {ومن يأته مؤمنًا} فإن قيل: صاحب الكبيرة لم يأته مؤمنًا عندنا. قلنا: يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح جاءني زيد قد قام بل صح قوله: {قد عمل الصالحات} وأنه حال آخر فكأنه قيل: ومن يأته قد آمن قد عمل. ولئن قيل: إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة. قلنا: ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل. وقوله: {نكالًا من الله} في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله: {ومن يأته مؤمنًا} لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله: {فأولئك لهم الدرجات العلى} من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات، لأن الزائدة عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لابد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان. ثم عظم شأن المذكور بقوله: {وذلك جزاء من تزكى} أي قال لا إله لا إله الله قاله ابن عباس. وفيه دليل على أن قوله: {ومن يأته مؤمنًا} يشمل صاحب الكبيرة، وقال آخرون {تزكى} أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجًا. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى}.
وهكذا انتهت المعركة في لحظة خاطفة.. فلا طعن ولا ضرب، ولا كرّ، ولا فرّ.. لقد أعطى السّحرة يدهم لموسى، وآمنوا باللّه ربّ العالمين.. إنها ضربة واحدة، انتهى بها كلّ شىء.. وإذا الحبال والعصىّ قد اختفت من الميدان.. إنها جميعا في جوف الحية.. لم يبق منها في مرأى العين رأس ولا ذنب!.
وهكذا يشهد فرعون بعينه تلك الهزيمة المنكرة، التي حشد لها كل كيده، والتي جمع لها في يوم الزينة الجموع الحاشدة لتشهد الضربة القاضية التي يضرب بها فرعون هذا الساحر الذي جرؤ على لقائه وتحديه.. وهكذا يجىء تدبير اللّه فوق كل تدبير، وتعلو كلمته كل كلمة.. وإذا هذه الجموع الحاشدة كأنما دعاها موسى، واستجلبها من كلّ مكان، لتعلن في الناس هذه الضربة القاصمة التي تلقاها فرعون على ملأ من الناس!.
ولا يجد فرعون ما يفثأ به غضبه، ويمسح فيه خزيه، إلّا السّحرة.. وها هو ذا يضرب في وجوههم ضربات مجنونة، ويرميهم بكل ما بين يديه.. ثم يتوعدهم بالموت على أبشع صورة وأشنعها..
الآيات: (71- 76) [سورة طه (20): الآيات 71- 76]:
{قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}.
التفسير:
والتهمة التي يلقى بها فرعون في وجه السحرة، ويتهددهم بها، هى أنهم قد تواطئوا مع موسى على هذا الأمر، وأن موسى ليس إلا واحدا منهم، بل إنه كبيرهم الذي علمّهم السحر! وإذن، فإن فرعون لم يغلب في هذه المعركة، إلا لأنها كلها كانت جبهة واحدة، ولم يكن فرعون في الجبهة المقابلة التي تلقى هذه الجبهة وتقاتلها، وتقضى عليها..!
إنها جميعا جبهة سحرة تآمروا عليه واتّحدوا ضده! وليس موسى إلا كبيرهم ومعلمهم!.. {قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}.
هذه أول تهمة تدين السحرة عند فرعون.. إنهم آمنوا بموسى قبل أن يأخذوا إذن فرعون وإجازته!! حتى لكأنّ الإيمان باللّه، عمل من أعمال السيادة التي في يد الحاكم، لا يمارسه الإنسان إلا بإذن من السلطان، فهو أشبه بأملاك الدولة، التي تحتاج إلى إذن خاص لتملكها والانتفاع بها..!!
وإذا كان للسلطان أن يملك من الناس ما يملكون من مال ومتاع، ويتسلط على الكلمة ينطقون بها، أو يأخذ عليهم السبيل إلى أي وجه يتجهون إليه- فهل يملك السلطان من الناس، ما تكنّه السرائر وما تنطوى عليه القلوب؟.
هكذا خيل لفرعون أنه يملك من الناس كل شىء، حتى خفقات قلوبهم، وخلجات صدورهم، فأنكر على السحرة أن يؤمنوا قبل أن يأذن لقلوبهم أن تستقبل أنوار الهدى ونفحات الإيمان!!.
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}..
ولهذا تواطأتم معه، وكدتم هذا الكيد، الذي أخرجتم به الناس ليشهدوا تلك المعركة الخاسرة! {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقى}.
لقد اختلق فرعون التهمة، ولفق الجريمة، ثم حكم، دون أن يسمع دفاعا، أو يسمح لأحد أن ينطق بكلمة! وعلى تلك النية الشنعاء يعرض فرعون السحرة، ويعدّ العدّة لتنفيذها فيهم..
ـ وفى قول فرعون: {أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقى} إشارة إلى ما تهدد به موسى السحرة، قبل أن تبدأ المعركة، وذلك في قوله: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى}.